top of page

السياسة الخارجية الروسية من منظور الواقعية الكلاسيكية

هدفت هذه الورقة البحثية إلى التعرف على مفهوم النظرية الواقعية الكلاسيكية وجذورها التاريخية، والكشف عن أثرها في العلاقات الدولية، ورصد دورها في السياسة الخارجية الروسية وتأثيراتها على كل من سوريا وأوكرانيا؛ حيث أظهرت النتائج أن مفهوم ...

Jan 16, 2023

مي العبدالله

السياسة الخارجية الروسية من منظور الواقعية الكلاسيكية

     هدفت هذه الورقة البحثية إلى التعرف على مفهوم النظرية الواقعية الكلاسيكية وجذورها التاريخية، والكشف عن أثرها في العلاقات الدولية، ورصد دورها في السياسة الخارجية الروسية وتأثيراتها على كل من سوريا وأوكرانيا؛ حيث أظهرت النتائج أن مفهوم الواقعيـة الكلاسيكية وجذورها التاريخية بدأت في القرن الخامس قبل الميلاد في اليونان، وأن العلاقات الدولية من المنظور الواقعي الكلاسيكي هدفها الصراع من أجل الوصول للقوة، وأن الدولة الروسية طبقت النظرية في سياستها الخارجية في كل من سوريا وأوكرانيا.


كلمات مفتاحية: الدور، الواقعية الكلاسيكية، السياسة الخارجية الروسية.


المقدمة

     تعد النظرية الواقعية وأصولها الفكرية ذات أثر كبير ومهم في فهم الجوانب السياسية المختلفة على صعيد العلاقات الدولية، وذلك بما تمثله من إطار نظري وفكري في فهم السياسيات الخارجية للدول، وقد عارضت الواقعية الكلاسيكية النظريات السابقة في فهم العلاقات الخارجية، ولا سيما المدرسة المثالية والسلوكية.

     ونتيجة لإخفاقات المدرسة المثالية ظهرت النظرية الواقعية للحد من الصراعات والحروب بين الدول ولأن النظرية المثالية فشلت في منع قيام الحرب العالمية الثانية ونظرت إلى العالم بشكل عالي المثالية؛ ظهرت الواقعية لمعالجة تلك المحددات، ولدراسة العالم بما هوعليه وليس بما يجب أن يكون، وهي مدرسة لا تزال تحكم السياسة الخارجية في العالم، وتمثل تفاعل العلاقات بين الدول على الصعيد الخارجي بنظرياتها المتجددة.

     والجدير بالذكر أن السياسة الخارجية هي المراه التي تبين آراء الدول واتجاهاتها نحو المواقف المختلفة في الساحة الدولية وهي تعبير دائم عن المصالح العامة للدول، فلم يغد يحكم العلاقات الدولية مبادئ الصداقة أو العداوة الدائمة، بل أصبحت تحتكم إلى المصالح الدائمة، فالدول تسعى لتحقيق مصالحها باستخدام الوسائل العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية.

     ولعل روسيا كانت تعاني من خلل كبير وواضح داخل نظامها السياسي، ذلك أنها ورثت مشاكل متراكمة من الاتحاد السوفيتي السابق، واقتريت من الغرب حتى تخرج من الأزمات التي مرت بها خلال ذلك التحول فتأثرت السياسة الخارجية الروسية في ترتييها لعلاقاتها الدولية.

     وقد كان للنظرية الواقعية الكلاسيكية دور فعال في فهم ورسم السياسة الخارجية الروسية، نظرا لظاهرة التعقيد في العلاقات الدولية المعاصرة، وبسبب ما واجهته روسيا من صعوبات العولمة والتكامل في الوقت الحاضر، ولما عانته من هيمنة الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، وإلى جانب المشاكل السياسية والاقتصادية تعتبر روسيا من الدول الكبرى في العالم، كما أن لها قدرات نووية عالية، وهي تمتلك ثروات كبيرة من المواد الخام أثرت بشكل كبير على مكانة السياسة الخارجية الروسية في النظام العالمي، والنظرية الواقعية الكلاسيكية في العلاقات الدولية هي أداة تفسيرية مهمة أثناء تحليل السلوك الخارجي الروسي. ومن خلال هذه الورقة سنناقش المحاور التالية:

  1. المحورالأول: مفهوم النظرية الواقعية الكلاسيكية وجذورها الفلسفية.

  2. المحور الثاني: النظرية الواقعية الكلاسيكية في العلاقات الدولية.

  3. المحور الثالث: السياسة الخارجية الروسية من مفهوم الواقعية الكلاسيكية.


المحور الأول: مفهوم النظرية الواقعية الكلاسيكية وجذورها الفلسفية

     تعرف النظرية الواقعية بأنها مجموعة من الأفكار المرتبطة بالعلاقات الدولية، والتي تؤكد على أهمية ودور الدولة والمصلحة الوطنية ضمن الإطار الواقعي بما يحمله الواقع من مصالح متناقضة وموازين قوى مختلفة في السياسة الدولية، وتسيطر النظرية الواقعية على الدراسات الأكاديمية للعلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويعود الفضل في إدخال الواقعية كنظرية لدراسة العلاقات الدولية إلى "هانس مورغا نتو" سنة 1948 ، الذي أحدث ثورة في الدراسات الأكاديمية للسياسات الدولية" (1).

وتعرف النظرية الواقعية أيضا بأنها إحدى النظريات الإنسانية في مجالات علم النفس التي أوجدها العالم السيكولوجي وليام جلاسرعام 1965 ، حيث تعتبر من النظريات التوجيهية التي تؤمن أن للأفراد حق تقريرالمصير، وهو المسؤول عن سلوكياته وكل اختياراته التي تحددها حاجة الإنسان للحرية والانتماء والقوة، وأن المشاكل السلوكية تحدث بسبب تخلي الأفراد عن مسؤولياتهم وعدم قدرتهم على تعزيز هوية الاندماج في المجتمع وإدراك الواقع(2).

     إن الواقعيون الكلاسيكيون لا يؤمنون بفضل الطبيعة البشرية، ولا بالعمل السياسي الذي يتم بوحي منها، وقد حددوا مجموعة من المبادئ التي تقوم عليها السياسة الدولية ضمن النظرية الواقعية، ومن هذه المبادئ أن الكائن الإنساني شرير في وجوده ويميل إلى ارتكاب الذنوب، وأساس غريزة الإنسان هي السيطرة والقوة والرغبة في السيطرة وأن ذلك يتجلى في النزاعات والحروب والصراع من أجل الوصول إلى السلطة، ويقود الدولة إلى اكتساب القوة وممارسة السيطرة على الساحة الدولية التي تعمها الفوضى وانعدام النظام(3).

     وتقوم الواقعية الكلاسيكية بتوظيف كل المتغيرات الخارجية والداخلية لشرح سلوك الدولة وتفاعلها مع الدول الأخرى في النظام العالمي، ويمزج هذا التوجه بين الكلاسيكية لمورجانثو والواقعية الجديدة لوالتز، ومن المفروض من قبل منظري هذه النظرية أن سلوك الدولة وسياستها الخارجية يتأثر بموقعها في النظام العالمي، أي بما تملكه من قدرات وقوة مادية، لكن تأثير القوة المادية المباشر لا يكون دائما بشكل كبير لأن السياسة الخارجية معقدة، كما أن هناك متغيرات أخرى داخل الدول يجب إدخالها في التحليل، فظهرت الكلاسيكية الواقعية بعد الحرب العالمية الثانية بسبب عدم وجود انسجام طبيعي بين الدول ومصالحها، وكان ظهورها كرد فعل للاتجاه المثالي والقانوني وهو يركز على مصلحة الدولة والقوة القومية(4).

جذورها الفلسفية

     كانت بداية ظهور النظرية الواقعية في القرن الخامس قبل الميلاد في اليونان؛ عندما قام الفيلسوف اليوناني سوثيديديس بوضع الأسس العامة لها بفضل خبرته في حرب البولينيز، وكان السبب الرئيسي للحروب القائمة آنذاك هو قوة أثينا والخوف من إسبرطة، إلى أن جاءت فكرة الدولة في بداية الأمر عند الامبراطورية الرومانية المسيحية، إذ وجد نوع من الوحدة المدنية في أوروبا آنذاك، لكن ظهور الواقعية بصورة واضحة بدأ في عصر النهضة وذلك من خلال أفكار ميكيافيللي الذي أكد على مبادئ ثوسيديدس، وكانت انطلاقة تلك الأفكار من رؤية ما هو موجود بالفعل وليس ما يجب أن يكون، فإذا أراد الحاكم أن يحتفظ بالحكم يجب عليه أن يعي كيف يستخدم قدراته وقت الحاجة قبل أن يكون متمسكا بالفضيلة، ثم تقدمت أسس الواقعية بناء على سياسات الوزير الفرنسي كاردينال دي ريتشيلو الذي قاد فرنسا في حروب الثلاثين عاما من أجل السيطرة على أوروبا، فقد انتهت الحرب بمعاهدة ويستفاليا 1648، التي تعد أول اتفاقية لتأسيس الدولة الحديثة.

     بعد ذلك تعددت الكتابات التي تنظر للواقعية وتدعمها، فكان منها كتابات الفسليوف توماس هوبز والمنظر العسكري كارل فون كلاوزيفيتش والمفكر هيغل (5)، وقد ركز توماس هوبز على الطبيعة الأنانية والعدوانية للإنسان من خلال مقولته (حرب الجميع ضد الجميع)، فهو يرى أن القوة تعتبر عاملا حاسما في السلوك الإنساني، لذا يسعى الإنسان ويحرص دائما على امتلاكها! (6).

     وفي القرن الثامن عشر ظهرت النظرية الواقعية بشكل واضح في كتابات كل من بيسمارك وكارل فون كلوززفيتر مؤلف كتاب (من الحرب)، وعلى الرغم من الجذور الفلسفية التي ورثتها النظرية الواقعية في التاريخ الأوروبي في مختلف عصوره؛ فقد انطلقت الواقعية في الولايات المتحدة الأمريكية كرؤية جديدة ومن ثم أصبحت منافسة للنظرية المثالية (7).

أهم منظري الواقعية الكلاسيكية

     ظهرت الواقعية بصورة واضحة في عصر النهضة في أفكار الإيطالي نيقولا ميكيافيللي (1469-1527م)، عندما أكد على مبادئ ثيوسيديدس، وكانت أفكاره تدور حول بعض المبادئ، منها أن ينظر إلى الواقع كما هو وليس كما يجب أن يكون عليه، وأن على الحاكم إذا أراد أن يحتفظ بالحكم أن لا يكون متمسكا بالفضيلة أكثر مما ينبغي، وأكد على الطبيعة الشريرة للأفراد وعلى الحاكم أن يتبنى سياسات مختلفة عن الأفراد من أجل تحقيق المصلحة ومنع الصراع بين الدول؛ لأن البشر تدفعهم المصالح الذاتية وشهواتهم تجاه السلطة، ورأى أن حاكم الدولة هو الضامن الأساسي والوحيد للسلام الداخلي؛ لانه وحده يتمتع بسلطة فرض ذلك السلام، وبهذا يعطي ميكيافيللي للأمير الصورة والصفات التي يستطيع من خلالها مواجهة الطبيعة البشرية ومواجهة الحروب، وبناء على ذلك فإن على الأمير أن يكون واقعيا لا يفكر إلا في ميدان الواقع؛ انطلاقا من انتصار الأقوى وهي الركيزة الأساسية في التاريخ (8).

     ولهذا الغرض كانت القوة العسكرية ركيزة أساسية في بناء الدولة، ومن ثم كانت الثروة المكونة من التجارة والصناعة وسيلة للوصول إلى القوة اللازمة وبهذا يمثل ميكيافيللي حلقة مهمة في تحليل القوة والنظام الحكومي بأسلوب معاصر، من خلال تركيزه على جعل القيم السياسية تعلو أي قيم أخرى لدى صناع القرار السياسي الداخلي والخارجي، ويتضح الفكر الواقعي وجذوره الفكرية في فكر ميكيافيللي بالتركيز على أولوية السياسة والدولة والمصلحة على الأخلاق والدين، فالغرض الأساس من السياسة برأيه هو المحافظة على القوة العسكرية .(9)

المحور الثاني: النظرية الواقعية الكلاسيكية في العلاقات الدولية

     إن العلاقات الدولية من المنظور الواقعي الكلاسيكي شأنها شأن عالم السياسة والهدف الأسمى هو الصراع من أجل الوصول للقوة، ومن المعروف أن العلاقات بين الدول هي علاقات قوى يحكمها قانون واحد وهو قانون المصلحة القومية، وبهذا فإن الصراع والقوة والمصلحة هي ركائز أساسية في البيئة الدولية، وهي كلها تعود إلى أصل رئيسي وهو الطبيعة البشرية التي قوامها الشر والأنانية، ومن هنا كان الصدام بين المدرسة الليبرالية والمدرسة الواقعية، فقد انتقد أنصار الواقعية نظام الأمن الجماعي من خلال عصبة الأمم، واعتبروه نظاما فاشلا لأن استقرار العلاقات الدولية عندهم يكمن في تــوازن القوى؛ لذا تم التركيز فــي التحليلات على هذا المفهوم وقدموا عددا من النقاط الحيوية التي اعتبرت أساس النظرية . (10)

     ويرى الواقعيون أن ميزان القوى أمر ضروري لمنع سيطرة قوة واحدة على النسق الدولي وأن توازن القوى بشكل تلقائي أو على وجه الصدفة، وقد يحدث بناء على استراتيجيات تقوم على التقارب الواعي للدول من أجل المحافظة على الوضع الراهن للقوة السياسية العالمية بكل الوسائل المتاحة ويناء على ذلك فإن الواقعيين الكلاسيكيين مثل مورجانثو يرون أن الدولة مثل البشر لها رغبات فطرية لفرض قوتها وسيطرتها، وأن هذه الرغبات هي دوافع رئيسية وراء الحروب، وركز على مفردات الواقعية الكلاسيكية كالتعددية القطبية ومنظومة ميزان القوة وقال: إن منظومة الثنائية القطبية تتسم بالخطورة نظرا للتنافس القائم والمستمر بين الولايات المتحددة والاتحاد السوفياتي . (11)

الافتراضات الأساسية للنظرية الواقعية الكلاسيكية في العلاقات الدولية

ترتكز النظرية الواقعية على افتراضات أساسية يعمل بها أنصار هذه النظرية، ويفسرون التفاعلات والعلاقات الدولية من خلالها، ومن هذه الافتراضات :(12)

  1. العلاقات السياسية تحكمها عدة قوانين تعود بجذورها إلى عمق الطبيعة البشرية فتبرز من خلالها النفس الشريرة والخطيئة وتتعدى ذلك إلى امتلاك القوة التي ينازع الإنسان للحصول عليها.

  2. إن الركن الأساسي لفهم وتحليل العلاقات الدولية يعود للدولة الوطنية فهي الفاعل الأساسي في العلاقات الدولية، بينما تعد الفواعل الأخرى مثل المنظمات الدولية والشركات متعددة الجنسية فواعل ثانونة إذا ما تم مقارنة دورها بدور الدولة الوطنية.

  3. يفترض الواقعيون أن الدولة تشكل وحدة متكاملة، ويرون أن الدولة تتصرف وكأنها فاعل واحد فقط؛ على الرغم من وجود تأثير للكثير من مراكز القوى واتخاذ القرار داخل الدولة، ومعنى ذلك أنه مهما كان هناك اختلاف في وجهات النظر داخل الدولة إلا أنه سيتم حل الخلاف في النهاية حتى تصبح الدولة تتحدث بكلمة واحدة على الصعيد الخارجي، وهذا يعني أن الدولة هي الفاعل الرئيسي في العلاقات الدولية.

  4. يفترض الواقعيون أن الدولة تتصرف بصورة عقلانية، وهي كفاعل أساسي في العلاقات الدولية تسعى نحو أهدافها ومصالحها وتتصرف بشكل عقلاني، أي أنها توازن ما بين الريح والخسارة في كل تصرف تقوم به، وعلى الرغم من أن الواقعيين يقرون بتأثير البيئة ووجود اختلاف وجهات النظر واختلاف العوامل المؤثرة فيها، إلا أنهم يرون أن الدول تتصرف وتتخذ أفضل القرارات من بين جميع الخيارات المتاحة أمامها.

  5. تتم العلاقات الدولية في ظل نظام دولي تغيب عنه السلطة المركزية ويوصف بالفوضوي.

المحور الثالث: السياسة الخارجية الروسية من مفهوم الواقعية الكلاسيكية

     تعكس السياسة الخارجية الروسية معظم الأطروحات الأساسية للواقعية الكلاسيكية ويتضح من خلال دراستها عمليا مفهوم الدور الأساسي للدولة في العلاقات الدولية، إذ إن الهدف والأولوية من القوة التي تمتلكها هي المصلحة الوطنية، كما تتضح بنصح طبيعة العون الذاتي للسياسة الخارجية للدولة وأهميتها في سياسة القوة في العلاقات الدولية، على اعتبار أن الدولة هي اللاعب الأساسي في الساحة الدولية، وأن العلاقات الدولية لا تزال بين الدول ذات السيادة، وأن دورها في مواضيع أخرى كالمنظمات الدولية والشركات المتعددة الجنسيات دور فرعي ومحدود، كما أن هناك مشاكل مع نشاط المنظمات غير الحكومية الأجنبية والمستثمرين الأجانب في روسيا، حتى أن موسكو عادة ما تكون حساسة وحذرة تجاه أي تواجد أجنبي في أراضيها، ورغم أنه مع تطور التعاون الاقتصادي تغير هذا الموقف مع بعض الشركاء الأجانب؛ إلا أن هذه الحساسية استمرت حيال النشاطات غير المراقبة التي لا تزال تمارس على الأراضي الروسية، ولا يزال ينظر لأي بعد خارجي بأنه خطر محتمل على الأراضي الروسية .(13)

     وفي ذلك السياق تنص القوانين الروسية على إجراء تدقيق داخلي عند تسجيل المنظمات غير الحكومية، وتتم الرقابة المالية على أنشطتها، وتوضع بعض الحواجز البيروقراطية، كما ينظر لبعض الأوراق غير الضرورية على أنها حدت بشكل كبير من حرية المنظمات غير الحكومية في روسيا، وسعت الحكومة للحد من حرية المعارضة القوية للناشطين الدوليين في مجال حقوق الإنسان، ومن مشاكل المستثمرين الأجانب في روسيا ما يتعلق بشكل أساسي بالاستثمار في قطاع الطاقة والمواد الخام، والتي لاتزال حساسة بالنسبة لشركة النفط البريطانية - الروسية، وهي شركة النفط المشتركة بين البلدين فقد رافق هذا النشاط جهود روسية لاتخاذ الرقابة على الشركة من خلال وضع عراقيل تتعلق بالتأشيرات الممنوحة للبريطانيين، ورافق ذلك تعقيدات تتعلق بالإدارة واتهامات بالتجسس .(14)

     واستنادا إلى الواقعية الكلاسيكية فقد كان لروسيا دائما موقف تجاه نشاط المنظمات الحكومية الدولية، ويتم استخدام ذلك من قبلها بصورة آلية حيثما وجد أن ذلك يصب في المصلحة الروسية، بالمقابل تنتقد وترفض كل نشاط تعتبره تدخلا في الشؤون الداخلية الروسية، ومن المعروف أن المنظمة العالمية الوحيدة التي حافظت روسيا على دورها القيادي فيها بعد الحرب الباردة هي الأمم المتحدة، وأن ذلك يصب في المصلحة الروسية؛ فموقع موسكو كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي سمح لها بأن تكون عضوا فاعلا مؤثرا، كما تجلى ذلك بشكل واضح برفض ترخيص دولي لبعض العمليات الدولية والأمريكية في الحرب على العراق .(15)

     وفي الشرق الأوسط أيضا يتضح التطبيق العملي للمنظور الواقعي الكلاسيكي بما قامت به روسيا عام 2015 من سلسلة ضربات جوية في سوريا، وقد كان ذلك مؤشرا على بداية تدخل عسكري وكبير ومستدام، ورغم أن تلك القرارات والتدابير الروسية كانت مفاجئة لبعض أطراف المجتمع الدولي والسياسي؛ فإن التحليلات القائمة على فهم مصالح روسيا وأهدافها وغاياتها وواقعيتها السياسية تكمن في فهم طبيعة ذلك التدخل، والذي على إثره قامت روسيا بتوفير دعم وتدخل مباشر للقيام بعمليات عسكرية في سوريا، بالإضافة إلى مساعدتها للرئيس السوري بشار الأسد في المحافظة على حكمه والسيطرة على مدينة حلب، التي هي ركيزة أساسية في سوريا، مما عدل مسار الحرب .(16)

      ومما يساعد على فهم هذا التدخل أن الأمر كان تصعيديا وكبيرا واستثنائيا خصوصا بعد حقبة الحرب الباردة، ورغم أن هذا التدخل يعارض تفضيل روسيا عدم الانخراط المباشر؛ فإن تورطها بشكل كامل في الصراع في سوريا يعكس تخوفها من الإرهاب الدولي، ورغبتها في الدفاع عن القواعد البحرية والجوية في اللاذقية وطرطوس، بل والعمل على توسعتها، كما أن حماية هذه الأصول مهمة جدا بالنسبة لموسكو؛ كونها القاعدة الوحيدة لروسيا في الشرق الأوسط، كما أن ذلك يمكنها من تحدي الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، ويحافظ على موطئ قدم لها هناك، حتى وإن لم يكن بقاء الأسد المستمر مستساغا بالنسبة لموسكو .(17)

     انطلاقا من الشرق الأوسط إلى أوروبا حيث تتسارع وتيرة الأحداث بين أوكرانيا وروسيا، والتي أساسها صراع حول المصالح والسياسات، فبينما تراقب روسيا بخوف وبقلق ما يقوم به القادة الأوكرانيون فيما يتعلق بالتوجيهات الحالية والمستقبلية تجاه العلاقة مع أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى ذلك مسألة انضمام أوكرانيا إلى الناتو تنظر أوكرانيا بخوف شديد حول ضم شبه جزيرة القرم لروسيا وفقا لاستفتاء سنة مارس 2014، التي كانت جزءا من أراضيها قبل ذلك، وأيضا الصراع الدائر في دونباس، ولوهانسك، وهما منطقتان من أراضي أوكرانيا اللتان انفصالا عنها وتم إعلان تشكيل جمهورية دونباس واستقلالها، وتتهم أوكرانيا روسيا بدعم المتمردين فيهما . (18)

     والجدير بالذكر أن روسيا استولت على جزء من أوكرانيا ودعمت الانفصاليين الذين بدأوا نزاعا في مناطق واسعة في البلاد، حيث ترغب روسيا من التعهد بعدم ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، وعلى الرغم من أن الجانبين يجريان المفاوضات لكن بدون فائدة، وهذا يعرض الهيكل الأمني لأوروبا بالكامل للخطر، حيث تنفي روسيا وجود نية لديها لنشب الصراع في أوكرانيا على رغم أنها حشدت نحو 100 الف جندي على حدودها ويتضح أنها في السابق استولت على أراض اوكرانية .(19)

     وبالنظر إلى مخاوف البيت الأبيض تجاه الأزمة الأوكرانية، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعزز دائما في معظم خطابته للإعلام من أن الغرب يتجاهل مخاوف بلاده الأمنية، وسط تفاقم القلق من احتمال اجتياح روسي مؤكد لأوكرانيا، وأدلى بوتين بتلك التصريحات لنظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورفضت الولايات المتحدة مطلب روسيا الرئيسي بأن يستبعد حلف شمال الأطلسي (الناتو) ضم أوكرانيا، وتلح واشنطن في المقابل على أنها عرضت على موسكو "مسارا دبلوماسيا" لحل الأزمة، في المقابل تنكر روسيا من جهتها التخطيط لأي هجوم، لكن بوتين أخبر نظيره الفرنسي بأن فتيل الأزمة لم ينزع بعد . (20)

الخاتمة 

     إن النظرية الواقعية الكلاسيكية استهدفت تحليل وتفسير السياسة الخارجية الروسية وأن الواقعيون الكلاسيكيون لا يؤمنون بفضل الطبيعة البشرية، وأن هذه النظرية توظف كل المتغيرات الخارجية والداخلية لتفسير سلوك الدولة، وأن السياسة الخارجية الروسية آمنت بالنظرية الواقعية وتماشت مع نهجها في دول الشرق الأوسط وخصوصا سوريا، وقد بينت هذه الورقة أن العلاقات الدولية من المنظور الواقعي الكلاسيكي شأنها شأن عالم السياسة والهدف الأسمى هو الصراع من أجل الوصول للقوة، وأن الدولة الروسية مارست تطبيقا عمليا للواقعية الكلاسيكية في سياستها الخارجية في كل من سوريا وأوكرانيا.


المراجع:

  1. الحاجة، سعود (21()2). نظرية العلاقات الدولية: سياسات مقارنة، ص15، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة سطيف،

    الجزائر.

  2. معالي، إبراهيم باجس (17()2). فاعلية برنامج ارشاد جمعى في ضوء النظرية الواقعية لخفض الضغوطات النفسية وتحسين

    مفهوم الذات لدى عينة أردنية من النساء السجينات. رسالة دكتوراه، جامعة العلوم الاسلامية العالمية، الاردن. ص 8.

  3. الحاجة، سعود (2021). مرجع سابق، ص17.

  4. المجلاد، عمار ياسر (21()2). النظرية الواقعية الكلاسيكية الجديدة وتطبيقها على السياسة الخارجية الأمريكية خلال الفترة

    2000 - 2001: الحرب على العراق نموذجا. مجلة كلية التجارة للبحوث العلمية، ع71، جامعة الملك سعود، السعودية، 217 u.a-

    218.

  5.  

    شاكر، محمد (2019). النظرتة الواقعية الكلاسيكية في العلاقات الدوتية، الموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية والاستراتيجية.

  6. المصدر نفسه.

  7. المصدر نفسه.

  8. دشر، ميثاق مناحي (16()2). النظرية الواقعية: دراسة في الأصول والاتجاهات الفكرية الواقعية المعاصرة، قراءة في الفكر

    السياسي الأمريكي المعاصر، مجلة أهل البيت عليهم السلام، ع20، العراق، 386ua.

  9. المصدر السابق نفسه.

  10. أحمد، محمد وهبان (2016). الواقعيون وتحليل العلاقات الدولية من مورجانثو إلى ميرشايمر: دراسة تحليلية للنظرية الواقعية

    عبر ستة عقود، مجلة كلية الحقوق للبحوث القانونية والاقتصادية، ع1، مصر، ص 13-12.

  11. المصدر السابق نفسه.

  12. حسن، محمود جابر (2021). النظرية الواقعية التقليدية في العلاقات الدولية. الموسوعة السياسية: منشور على الرابط:  https://political-encyclopedia.org


  13. Jacek Wieclawski (2021). Contemporary Realism and the Foreign Policy of the Russian federation Department of lnternational Political relations. Lazarski university. Warsaw – Poland. P.3.


  14. المصدر السابق نفسه، ص3.

  15. المصدر نفسه، ص4.

  16. جيمس، سلادن وأخرون (17()2). الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط، ص1، منشور على الرابط: WW.RAND.ORG


  17. المصدر نفسه، ص5.

  18. خاد شنيكات (22()2). دراسة للدكتور شنيكات عن الأزمة الراهنة بين روسيا وأوكرانيا، منشور على الرابط: https://cutt.us/8Wp1T


  19.  

    بي ي سي (2022). روسيا وأوكرانيا: هل تستعد القوات الروسية لغزو أوكرانيا؟ منشور على الرابط: https://cutt.us/tk7FS

     

  20.  

    [1] بي بي سي (2022). الأزمة في أوكرانيا: بوتين يتهم واشنطن بتجاهل مخاوف بلاده الأمنية، منشور على الرابط: https://cutt.us/c42NG



whatsApp.Icon-01.png
bottom of page